حاملة على ظهرها نحو 10 كيلوغرامات من القوارير البلاستيكية، وبملامح تشي بالكثير من الأسى والتعب، تتجول محرزية في شوارع العاصمة تونس باحثة في حاويات القمامة عن قوارير أخرى، وعن أي شيء له قيمة قد تجني ببيعه دنانير قليلة.
ومحرزية (47 عاماً)، أصيلة منطقة حي الفتح بسيدي حسين، واحدة من أشهر الضواحي الشعبية للعاصمة تونس والأكثر كثافة سكانية، هي واحدة من عشرات بل ربما مئات النساء اللواتي يجبن يومياً شوارع المدن التونسية متنقلات بين حاويات القمامة لجمع النفايات القابلة لإعادة التدوير، وفي مقدمتها البلاستيك، لا يحميهن قانون ولا يجمعهن جامع سوى تجار الخردة والمقاولين الذين يشترون كدّ أيامهن.
تقول محرزية، لـ”النهار العربي”، إنها تبيع ما تنجح في جمعه لشركات متخصصة في تجميع هذه النوعية من النفايات مقابل دنانير قليلة، مضيفةً: “قوارير الألمنيوم أغلى من البلاستيك”.
وتُعيل محرزية أسرة من خمسة أنفار، لذا تعمل نحو 8 ساعات بين شوارع المدينة المكتظة وتقطع قرابة 10 كيلومترات لتجني 10 دولارات في أقصى الحالات، فـ”ثمن الكيلو الواحد من البلاستيك لا يتجاوز ثلث دولار”، كما تقول، وفي عطلة الصيف يساعدها أولادهت على جمع قوارير البلاستيك، فيزيد المحصول.
“البرباشة”
يطلق على محرزية ونظيراتها اسم “البرباشة”، وهذه كلمة مشتقة من فعل “يبربش” ويعني يبحث أو “ينبش”.
و”البرباشة” مهنة ظهرت منذ سنوات في المدن، إذ يقوم العاملون والعاملات فيها بجمع المواد القابلة لإعادة التدوير، خصوصاً البلاستيك والألومنيوم، لبيعه للشركات التي تتولى تدوير النفايات.
ومنذ تسعينات القرن الماضي، خطت تونس نحو برنامج تثمين النفايات وإعادة تدويرها.
وشجع ارتفاع نسبة استهلاك قوارير المياه المعدنية كثيرين على ممارسة هذا النشاط، إذ تنتج تونس ما يصل إلى 2,7 مليارات قارورة ماء بلاستيكية سنوياً، بحسب أرقام رسمية.
هناك فئتان من “البرباشة”، فئة تعمل في المكبات حيث تفرز النفايات بعد أن تجمعها البلديات، وأفراد هذه الفئة يأتمرون بأوامر مشغلهم، وفئة تعمل منفردة، فتجمع القوارير البلاستيكية أو الألومينيوم أو كل أنواع القمامة التي يمكن بيعها مرة أخرى من حاوية القمامة بالشوارع والأحياء والأزقة وتفرزها.
عنف واستغلال
لا أرقام رسمية لعدد “البرباشة” في تونس، لكنهم يقدرون بالآلاف، حتى باتت هذه المهنة وجهة كل من تُسد في وجهه أبواب الرزق.
في حي الفتح، تعمل نساء كثيرات في جمع القمامة، خصوصاً ممن لا عائل لهن وتقدّمن في السن وأُغلقت أمامهن كل أبواب التوظيف. وتقول ريم بن عمر، المنسقة لمركز الإنصات والتوجيه للنساء ضحايا العنف بالمرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لـ”النهار العربي”، إن أغلب العاملات في جمع النفايات “يتعرضن للتحرش والاستغلال والتعنيف، والمرصد استمع لشهادات العشرات من النساء، تحدثن عن معاناتهن اليومية مع جمع القمامة من أجل تحصيل لقمة العيش”.
وتضيف: “قد تسير إحداهن أكثر من 10 كيلومترات يومياً لتحصيل مبلغ لا يتجاوز 10 دولارات، لأن الوسطاء الذين يشترون ما يجمعنه بسعر أقل مما يدفعونه للرجال”، لافتة إلى أن حصيلة الشهر لا تتجاوز 100 دولار في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً.
قانون خاص
لعالم “التبربيش” قوانينه الخاصة التي تحتل فيها النساء موقعاً متدنياً. وبحسب هذا القانون، يقسّم “البرباشة” الأحياء السكنية والحاويات ومكبات النفايات في ما بينهم، وتحتل “أولوية” الوصول إلى مكان القمامة رأس اللائحة في هذا القانون، لذلك قد تتعرض محرزية ومثيلاتها للعنف إن خالفن القانون، وهو ما حدث مع يمينة جارة محرزية التي تعرضت للتعنيف من “برباش” اعترض على وجودها في حي يعمل فيه، فاعتدى عليها وكسر يدها.
ويحدث أن تتشاجر محرزية، التي تنبش يومياً عشرات الحاويات المنتشرة بين أحياء العاصمة في كل مكان منذ حوادث 11 كانون الثاني (يناير) 2011، مع “برباشة” آخرين، غالباً ما يكونون ذكوراً، وقد تتعرض للاعتداء لأنها تنافس أحدهم على مورد رزقه.
وتروي: “كثيراً ما يطردني أحدهم ويعتدي عليّ سباً وشتماً، لأنني أبحث في منطقة يدعي أنها ملكه”.
تؤكد الناشطة الحقوقية ريم بالرمضان الأمر، وتقول إن الكثير من النساء العاملات في النبش عن القمامة يتعرضن للاستغلال الاقتصادي وللتعنيف من “زملاء المهنة”.
مخاطر صحية
لا تملك محرزية ومثيلاتها يوماً للراحة واستعادة الأنفاس، فرزقهن بين حاويات القمامة وإن لم يذهبن لجمعه فلا رزق لهن. ويحدث أن تصاب العديدات منهن بأمراض جلدية أو تعاني مشكلات في التنفس بسبب النبش وسط الحاويات بأيد عارية ومن دون كمامات، كما تؤكد ذلك بالرمضان، مضيفة: “لا يملكن وعياً كافياً بخطورة ما يقمن به، ولا يملكن دفتراً للعلاج إن تعرضن للإصابة”.
تأمل محرزية أن تشتري عربة صغيرة يدوية الدفع تُريحها من حمل كل تلك الكيلوغرامات من النفايات فوق ظهرها الذي تقول إنه “لم يعد قادراً على حمل المزيد لكنني لا أصغي لآلامه التي تزداد كل يوم. فأحياناً لا أقوى على الوقوف صباحاً، فعليّ أن أعمل، وليس أمامي من خيار آخر”.