مرحلة التغييرات المتسارعة في العلاقات الدولية بدأت تأخذ أشكالاً أكثر وضوحاً في مختلف المجالات وأهمها التحولات السياسية والاقتصادية بين الدول والاتحادات.
ويُقرأ المشهد الدولي من خلال الأزمات وصراعات النفوذ المتعددة، وتشكل التحالفات وصمود الأنظمة السلطوية وصعود الأحزاب اليمينية وقيادات سياسية جدلية تجيد توظيف الخطاب الديموغوجي الشعبوي، حيث يُنذر هذا المشهد بعلاقات دولية متوترة عنوانها الأبرز الهيمنة والنفوذ والمصالح الاستراتيجية القومية أولاً وأخيراً.
ولعل أبرز ما تمثله هذه المرحلة السياسات المعلنة للرئيس الأمريكي الجمهوري دونالد ترامب تجاه منطقة الشرق الأوسط والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي ومؤسساته وكندا وبنما والمكسيك والدنمارك “جرينلاند”.
حيث تحظى منطقة الشرق الأوسط تحديداً بأهمية استراتيجية في السياسة الخارجية الأمريكية، وتتصدر قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والحرب على قطاع غزة الأولويات لدى الإدارة الأمريكية يتبعها بالأهمية استكمال اتفاقية ابراهام والملف النووي الايراني .
حيث أثار تصريح الرئيس ترامب بما يتعلق بالمرحلة التي تلي وقف اطلاق النار في قطاع غزة والمتمثل برغبته بتهجير سكان القطاع إلى المملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية مصر، العديد من التساؤلات حول إمكانية تطبيق هذه الفكرة أو استحالة تنفيذها في ظل الظروف السياسيه الراهنة أم تعتبر محاولة لرفع مستوى الابتزاز السياسي لتنفيذ أهداف لم يتم الإعلان عنها في هذه المرحلة.
وهنا لابد من تحليل البيئة السياسية ودوافع اتخاذ القرار السياسي والأدوات الممكنة والقوه الكامنة والمصالح المشتركة والتأثيرات المحتملة لدى مختلف الأطراف لبيان إمكانية تطبيق فكرة التهجير من عدمها .
تعمل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مُنذ يومها الأول على توقيع قرارات مؤثرة، بالإضافة إلى إلغاء وتعديل العديد من قرارات الرئيس السابق جو بايدن، حيث وصل مجموع القرارات التنفيذية لإدارة ترامب في أسبوعها الأول إلى ما يقارب 350 قرار تنفيذي، ومما يلاحظ على هذه القرارات والتصريحات التي تتبعها وما سبق أيضاً إعلانه خلال الحملة الانتخابية بأن إدارة البيت الأبيض تستند في معظم قراراتها ورؤيتها السياسية لمصالحها الإقتصادية وذلك في سعيها إلى تجسيد مفهومي “الحلم الأمريكي”، “والعصر الذهبي”، للوصول لأقصى درجات الرفاه الاقتصادي والمعيشي للمواطن الأمريكي والقوة المُطلقة .
جميع المؤشرات تتجه إلى أن إدارة ترامب هي إدارة الصفقات الإقتصادية بغطاء سياسي، إلى حد أن وصفها عضو مجلس الشيوخ الأمريكي البارز بيرني ساندرز بالأوليغارشية(حكم الأقلية)، وذلك بعد وقوف 3 مليارديرات وهم: ايلون ماسك وجيف بيزرس ومارك زوركربيرغ خلف الرئيس الأمريكي أثناء حفل تنصيبه، والحديث عن أفكار ترامب التي تشير إلى احتكار مستقبل الاقتصاد الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالنظر إلى أبرز أعضاء فريق البيت الأبيض نجد بأن ترامب قام بتعيين صديقه رجل الأعمال الملياردير اليهودي ستيفن ويتكوف مبعوثاً رئاسياً للشرق الأوسط والمعروف بتأييده الكبير لإسرائيل، ويوصف بيتكوف بأنه يفتقر للدبلوماسية والخبرة السياسية وهو غير معروف لدى المؤسسات الأمريكية المتخصصة بدراسة قضايا الشرق الأوسط، على عكس وزير الخارجية الأمريكي ماركو ريبيو الذي بدأ مسيرته السياسية كعضو في مجلس النواب الأمريكي مُنذ عام 2000 ويعرف أيضاً بتأييده للعلاقات مع إسرائيل، روبيو أوضح من خلال تعليقه على قرار ترامب المتضمن وقف ومراجعة برنامج المساعدات المالية للعديد من الدول ومن ضمنها الأردن مع استثناء مصر واسرائيل لمدة 90 يوماً بأن إعادة منحها مرتبط بالإجابة على ثلاثة أسئلة:
1_ هل يجعل أمريكا أقوى؟
2_ هل يجعل أمريكا أكثر أماناً؟
3_ هل يجعل أمريكا أكثر ازدهاراً ؟
ويكتمل التوجه الرئيسي للبيت الأبيض بتعيين الملياردير والداعم للحملة الانتخابية للرئيس ترامب رجل الاعمال سكوت بيسنت وزيراً للخزانة الأمريكية.
هذا التوجه العام والأيدلوجية لإدارة ترامب، وإذا ما أضفنا أيضاً تحليل علماء النفس الخاص بشخصية ترامب بأنه شخص نرجسي ولا يمكن توقع تصرفاته، يُفسر بأن الدول الفاعلة بالنظام الدولي ومنطقة الشرق الأوسط أمام إدارة غير تقليدية ورئيس مندفع لتنفيذ قناعاته دون مراعاة الضوابط السياسية والدبلوماسية.
ومما لا شك بأن الولايات المتحدة الأمريكية باختلاف رؤسائها السابقين تنظر إلى إسرائيل كمشروع متقدم في المنطقة، وكحليف استراتيجي مهم لها، غير أن إدارة ترامب بتركيبتها الحالية تعلن تحيزها بشكل مختلف عن الإدارات السابقة للبيت الأبيض ،وتستمع بشكل كبير للأصوات السياسية في الداخل الإسرائيلي واللوبيات الصهيونية الثرية في الداخل الأمريكي، وذلك على حساب الأصوات المعتدلة في المنطقة وعلى رأسها الدولة الأردنية.
وما يبعث على القلق أيضاً استراتيجية ترامب الخاصة بالشرق الأوسط والتي تعتمد على فرض السلام بمنطق القوة، والتي تثير لعاب حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي حيث تتجذر في عقليتها السياسية ثنائية ضم المزيد من الأراضي والتهجير، هذه الاستراتيجية تغض النظر عن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني المتمسك والثابت بأرضه والقرارات الأممية.
موقف الأردن تجاه قضيته المركزية وعلى المستويين الرسمي والشعبي ثابت ولا يقبل المساومة بما يتعلق بطرح فكره تهجير الشعب الفلسطيني سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، والسياسة الخارجية الأردنية استطاعت سابقاً تأكيد رفضها لصفقة القرن والكونفدرالية مع الضفة الغربية.
مراكز صنع القرار الأردنية الأكثر فهماً وادراكاً وتنبوءً لما يدور في ذهنية السياسي الإسرائيلي ويتقدم عليه بخطوة في هذا الملف، والأردن يعي ويدرك أهمية استمرار شريان الحياة في قطاع غزة والضفة الغربية ولو بحده الأدنى، وهذا ما يُفسر إرسال المستشفيات الميدانية العسكرية والطواقم الطبية والقوافل المتنوعة، وأكثر من 391 انزالاً جوياً من المساعدات التي نفذتها القوات المسلحة الأردنية في قطاع غزة.
كذلك الأمر ينظر الأردن إلى مرحلة إعادة اعمار قطاع غزة بأهمية قصوى حتى لا تستغل الحكومة الإسرائيلية بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية هذا الملف بفرض تسويات سياسية لا تتوافق مع الموقف الأردني.
وهنا لابد من الذكر بأنه لطالما اعتبرت العلاقات الأردنية مع الولايات المتحدة الأمريكية كعلاقات تاريخية تراكمية عابرة لنتائج الانتخابات الرئاسية، تتشارك وتتعاون الدولتان بالعديد من القضايا من أبرزها الاستقرار الإقليمي ومنع الإرهاب والتعاون الإقتصادي .
نعم، يدرك الأردن صعوبة التعامل مع الإدارة الأمريكية الحالية، والمرحلة القادمة يبدو أنها ستكون أكثر تعقيداً وخصوصاً في الضفة الغربية وقطاع غزة والمنطقة ككل، لكن من المؤكد بأن الأردن لا يرغب بالتصادم مع الإدارة الأمريكية على الرغم من امتلاك الدولة الأردنية للعديد من الأدوات والحلول الصفرية، حيث يبقى الرهان الأكبر على ديناميكية السياسة الخارجية الأردنية التي تمتلك قاعدة علاقات متشعبة ومتنوعة ومؤثرة مع القوى السياسية الجمهورية والديمقراطية والمؤسسات الأمريكية.
حيث يحظى الملك عبد الله الثاني بتقديرها واحترامها، وأيضاً لما يمتلكه من شرعية دينية تتمثل بالوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس، ولدوره في توظيف تأثير الدولة الأردنية في المنطقة وجعله جزءاً من الحل وليس طرفاً في الصراعات الإقليمية.
نثق بقدرة الدبلوماسية الأردنية ومراكز صنع القرار بالتعامل مع هذه المرحلة الحرجة ووضع السيناريوهات والملفات على الطاولة السياسية في مختلف عواصم القرار بكل قوة وثبات، وتقديم خطط مضادة تنفرد بالحكمة والواقعية والعدالة وحساب الكلفة في حال ذهاب المنطقة للفوضى والحرب.
وبناءً على ما سبق يرى فريق بأن هذه المرحلة تشكل تحدياً للدولة الأردنية وفريق آخر يراها كفرصة للدولة، وكلا الفرضيتين صحيحتين.
فبالنسبة للتحديات يستطيع الأردن تجاوزها والخروج منها أكثر قوة ومنعه، وبالنظر إليها كفرصه تستطيع أيضاً الدولة من تنويع الخيارات وتعزيز الشركات مع دول عديدة كشراكة الإستراتيجية مع الإتحاد الأوروبي يوم أمس وحتى الوصول لمرحلة الاكتفاء الذاتي.
وختاماً… هنالك مقولة لجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين تقول: “وما كان قدر هذا البلد يوماً إلا أن يكون بدايةً لما هو أعظم”.