د. ضرار مفضي بركات
يأتي هذا المقال بيوم العلم الأردني في السادس عشر من نيسان من كل عام؛والذي يحتفل به الأردنيون، وهو ما أقرهُ مجلس الوزراء سابقاً؛ بهدف تعزيز القيم الوطنية، وتحت الشعار الذي أطلقته وزارة الثقافة الأردنية “علمنا عالٍ”، حيثُ يستذكر الأردنيونَ معاني الفخر والعزة والإباء، وتضحيات الأجداد في سبيل أن تبقى هذه الراية خفاقة عالية عبر100عام من عمر الدولة الأردنية وإلى الأبد، بعون الله ورعايته.
إنَّ العَلم الأردني الذي يحتفى به جاءَ بأشرطة مُتوازية أفقياً حملت ألواناً مميزة، كالأسود وهو راية الدولة العباسية، والأبيض وهو راية الدولة الأموية، والأخضر هو راية آل البيت وعباءة الرسول-صلى الله عليه وسلم-، والأحمر وهو راية الهاشميين، الذي تمثل بالمثلث الذي يجمع الأشرطة الثلاثة السابقة، ويتوسطهُ كوكب سباعي الأشعة (النجمة السباعية) يدل على فاتحة القرآن الكريم السبع المثاني، والذي استقى دلالاته هذه من علم الثورة العربية الكبرى التي أعلنها المغفور له بإذن الله الشريف الحسين بن علي عام 1916م؛ ليطلق العنانَ لتحرر البلاد وللنهوض مجدداً واستعادة تاريخ الأمة المجلل بالعزة والكرامة، والمفعم بالعطاء والبناء وصدق التوجه ولاءً وانتماءً.
وتنفرد الراية الأردنية بآنها هي تلخيص للحضارة العربية الإسلامية، وأن الهاشميين هم الامتداد لهذه الحضارة العريقة، فحين نرى في تصميم العلم توازي الألوان الأسود العباسي مع الأبيض الأموي، ثم الأخضر الفاطمي، ويأتي الأحمر الهاشمي، ليتصل بهذه الحضارات، وكأنه يعبر عن التصميم والإرادة؛ لأن تبقى الحضارة العربية بإرثها الكبير الخالد في النفوس والعزيمة على القلوب، وأما النجمة السباعية فلقد أضيفت للراية الأردنية منذ عام1921م؛ لتعطي مدلولاً قومياً تاريخياً، ورمزاً دينياً، وقد وضع تفسير لمعنى وجودها بدلالتها للسبع المثاني، كما وردت في فاتحة الكتاب العزيز بالثناء على الله -عز وجل- وعبادته وتوحيده، وهي أصل من أصول الدين الإسلامي، الذي يدعو على التعايش السلمي، وسمو الإنسانية ورقيها، والشعور بالإحساس القومي الوطني المُتجذر في الأصول والحضارة، والذي يدعو إلى التواضع الرفيع، ونشر العدالة الاجتماعية، والدعوة للنهج المُستقيم، بل وبذل النفس والمال؛ دفاعاً عن عزتها، وحفاظاً على كرامتها، وأرضها، ومواطنيها؛ ليرفع العلم الأردني الذي نسميه الراية أحياناً والعلم حيناً آخر؛ خفاقاً بكل معاني الفخر والاعتزاز، وبما يحمله من رموزٍ عظيمة وهوية وطنية متأصلة، يسمو فيهما الولاء والانتماء.
ويمتدُ تاريخ العلم أو الراية الأردنية للحضارة العربية الإسلامية، ابتداءً من راية الرسول -صلى الله عليه وسلم (570م -632م) حيثُ كانَ هناكَ رايتان: (بيضاء وسوداء)، إحداهما يحملها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتسمّى “العقاب”، وهي راية الرسول صلّى الله عليه وسلم، والثانية البيضاء يحملها الأنصار، كما ذكرَ ابن اسحق أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام دفع لواءً أبيض إلى مصعب بن هاشم بن عبد مناف، وذكرَ أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ الراية البيضاء عليها عبارة “لا إله إلّا الله محمد رسول الله”، ولقد تكرر استخدام الرايتين البيضاء والسوداء في عهد الخلافة الراشدة (632-661م)، ورفعتها جيوشُ الفتح في جميع معاركها، وعُرف المثنى بن حارثة برايته السوداء، وخالد بن الوليد برايته الخضراء، وسعد بن أبي وقاص برايته الحمراء، ورفع أسامة بن زيد الراية البيضاء)). (موقع: إسلام ويب، www.islamweb.net). وهكذا وصولاً للراية الهاشمية التي جمعت لهذه الألوان.
وبالتالي فإنِّ العلم الأردني ينظر إليه بوصفهِ جُزءً لا يتجزأ من عملية بناء الأمة، ويشير إلى ذلك الشعور المُتنامي بالهوية الوطنية بين الناس، ويكثف إحساسهم بجملة من الرموز والعلامات والألوان والذي يمنحها معانٍ ودلالات مُتراكمة مع الأيام؛ ليحفظ ذاكرتهم الوطنية، حيثُ يسجل الأردنيون وقائع لا تُمحىَ، فلقد كانَ العلم خفاقاً مع انعقاد المُؤتمر الوطني الأردني الأول في25 تموز عام 1928م، والذي شارك فيه أكثر من مئة وخمسين شخصية من رموز الوطن، والذين أكدَوا على اعتبار الشعب مصدر السلطات، إلى جانب وجوب المُحافظة على مصالح الأمة.
وفي مرحلةٍ أُخرى تالية فإنَّ العلم الأردني نفسهُ رفعه الأردنيون مع إعلان استقلال المملكة الأردنية الهاشمية في25 أيار عام1946م، الذي كرس سيادتهم على الأرض، وانتهاء الانتداب البريطاني الذي دام نحو خمسة وعشرين عاماً، وإلى جانب مبايعة المغفور له بإذن الله عبد الله بن الحسين ملكاً على البلاد؛ ليُكتب بذلكً يوماً تاريخياً في صفحة الأردن في موعد مع التحديث والتطوير والكرامة، والعمل على تقدين العون والمساعدة لكل من يطلبها.
فعلى أرض فلسطين، بذل الجيش العربي الغالي والنفيس حفاظا على مقدساتها في معارك خلدها التاريخ ورفع فيها العلم الأردني، بدءا من معركة باب الواد عام 1948 التي صدت التقدم الصهيوني باتجاه القدس، وارتقى عشرات الشهداء الأردنيين دفاعاً عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين”المسجد الأقصى”.
وفي 21 آذار عام 1968، ذاد الجيش العربي من جديد عن الحمى في معركة الكرامة التي سطرت عنواين كثيرة من البطولات الاستثنائية في مُواجهة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر؛ ليكتب الأردنيون بذلكَ انتصاراً يوثق في سجل انتصاراتهم، ويلوحون بعلمهم العالي، الذي لم يسقط من أيديهم في المعركة، بل ظل مرفوعاً معطراً زكياً بدماء الشهداء وجهود الأحياء العظيمة.
وعلى امتداد أكثر من خمسين عاما، تمسك جنود الأردن بواجبهم في معارك عديدة حفاظا على الأوطان في مواجهة الأعداء منذ مشاركته في حرب تشرين 1973، ومرورا بحروبه ضد قوى التطرف والإرهاب التي استطاع أن يجنب الشعب الأردني والشعوب العربية أخطارا وكوارث كبرى، وانتهاء بدوره الأساسي والمهم في مواجهة وباء كورونا منذ حوالي ثلاث سنوات، وفي كل تلك الوقائع ظل العلم الأردني شامخاً في أمجاده على صروح مؤسساته وعلى الصدور نُعلنهُ عالياً، ونحفظه في قلوبنا، وتتوسم فيه مُحيانا، وتتغني فيه كلماتنا، وتبني به سواعدنا عناوين الفخر والكرامة.
فعلى امتداد مئة عام وزيادة، مجد الشعراء راية الأردن التي لم تنكسر يوما، حيث يقول الشاعر: “خافق في المعالي والمنى/ عربي الظلال والسنا/ في الذرى والأعالي فوق هام الرجال/ زاهياً أهيبا/ حيه في الصباح والسرى/ في ابتسام الأقاح والشذى/ يا شعار الجلال والتماع الجمال/ والإباء في الربى”.. ومنه (علآ علا علم إبلادنا وعلا، علا بالعلالي وعلا).
وأخيراً ننظرُ اليوم إلى علمنا الأردني الذي خضبت حمرته دماء الشهداء، وروت خضرته قطرات الندى ممزوجة بعرق فلاحيه، وعتقت سواده علامات الجد على محيا أبناء الأردن وإخلاصهم لماضيه ومُستقبله (الصقور المخلصين)، والذي يظهر من بياضه قلوب محبة نقية، تحلم بوطن حرٍ وجميل مواكب للحداثة، ومحافظ على أمجاده المتأصلة الجذور والهوية، يبذل لأجله الغالي والنفيس؛ دفاعاً عنه من حقد الحاقدين، ومكر الغادرين ومن تسلط المُعتدين؛ ولينعم الشعب الأردني بالأمن والأمان، وليبقى (علمنا عالٍ). وحفظ الله الأردن وطنا وشعباً وقيادةً، اللهم آمين.