لمحة الاخباري _ديمه الفاعوري.
في لحظة سياسية يغلب عليها الاضطراب وتتصاعد فيها أصوات الصراع على حساب صوت العقل، يبرز جلالة الملك عبدالله الثاني بوضوح كقائد يعرف كيف يصوغ الموقف الأردني بحكمة متوازنة، بعيدة عن الانفعال وقريبة من المصلحة الوطنية العليا. لم تكن كلمات الملك، خلال لقائه مع نخبة من الشخصيات السياسية والإعلامية، مجرد رسائل بروتوكولية، بل كانت مواقف مبدئية حازمة تؤكد أن الأردن لا يمكن أن يكون طرفًا في فوضى السلاح ولا ساحة لتصفية الحسابات. بل هو دولة صاحبة موقف، تقف على خطٍ ثابت بين التهدئة ورفض التهديد، بين دعم السلام ورفض الابتزاز.الملك كان واضحًا كعادته: الأردن لا يقبل العبث بأمنه، ولن يسمح لأي جهة، أياً كانت، بأن تمس استقراره وسلامة مواطنيه. هذا ليس مجرد تحذير، بل هو إعلان لنهج لا يتزحزح، يترجم فلسفة الحكم التي تعتمد الردع المسؤول وليس الاستعراض، الثبات لا التشنج، الموقف لا المزاج. فالبلد الذي بناه الأردنيون بتضحياتهم، وصانته القوات المسلحة الباسلة، لن يكون لقمة سائغة ولا ساحة رهان.ولا يقف جهد جلالة الملك عند حدود الداخل، بل يتعداه إلى أداء دبلوماسي يليق بموقع الأردن الأخلاقي والسياسي في الإقليم. تحركاته الخارجية، وخاصة في العواصم الأوروبية، ليست للتقاط الصور، بل لحشد الدعم الدولي لمواقف عادلة في زمنٍ أصبحت فيه العدالة سلعة نادرة. وحين يتحدث الملك عن ضرورة وقف العدوان على غزة وفتح ممرات إنسانية وعودة الأفق السياسي لحل الدولتين، فإنه لا يكرر شعارات، بل يقدم طرحاً واقعياً مدعوماً برصيد من المصداقية السياسية التي لا يتمتع بها كثيرون في هذه المرحلة.ما يجب التوقف عنده بإجلال، هو إشادة الملك بدور النخب الوطنية، السياسية والإعلامية، في توضيح مواقف الدولة داخليًا وخارجيًا. هنا تتجلّى فلسفة الحكم التي يؤمن بها الملك، فالدولة ليست مؤسسة مغلقة، بل كيان حيّ يتفاعل مع مكوناته. حين يُكرّم الدور التوعوي للنخب، فإن ذلك يعكس احترامًا للوعي الجمعي الأردني، وثقة في قدرتنا كمجتمع على اجتياز المحن من خلال المعرفة والانتماء لا بالتحريض أو الانفعال.في الملف الفلسطيني، لا يحتاج الأردن إلى شهادة. فثبات الموقف الأردني تجاه القضية المركزية لا يزال حجر الزاوية في السياسة الخارجية للمملكة. والملك، بقراءته الدقيقة للواقع، يعرف أن غياب العدالة في فلسطين هو أصل عدم الاستقرار في الإقليم، وأن القفز فوق الحق الفلسطيني لن يولد إلا المزيد من العنف والانفجار. ومن هنا كانت تحركاته قائمة على قواعد أخلاقية قبل أن تكون سياسية، وعلى قناعة بأن لا سلام حقيقي دون إنهاء الاحتلال والظلم.الحديث عن الداخل لا يكتمل دون الإشارة إلى ما لم يُقل بوضوح، لكنه فُهم بعمق: أن الجبهة الداخلية هي الدرع الحقيقي، وأن الالتفاف حول الدولة هو السلاح الأمضى في مواجهة الرياح الآتية من خارج الحدود. فالردّ على التصعيد لا يكون بالصوت المرتفع، بل بتماسك البيت الأردني، بثقة الناس في مؤسساتهم، وبتواصل القيادة مع الشعب بلا حواجز.
اللقاء كان أشبه بجلسة مراجعة وطنية، تتقاطع فيها السيادة مع المسؤولية، وتلتقي فيها الحكمة مع الموقف. الملك لم يكن يُلقي خطابًا من برجٍ عالٍ، بل كان يرسم خطًا وطنيًا شاملاً، يُذكّر الأردنيين بأن البلد الذي حافظوا عليه وسط الحروب والانقسامات، لا يجوز أن يكون ضعيفًا في زمن تُصنع فيه الجغرافيا من جديد.في المحصلة، لا أحد يستطيع أن يقرأ خريطة الإقليم دون أن يلحظ كيف يقف الأردن في المنتصف، لا ليتفرج، بل ليمارس دوره الذي يعرفه الجميع، وإن حاول البعض تجاهله. الأردن لا يبيع مواقفه، ولا يبدّل بوصلته. بقيادته، يقف على ثوابته ويخاطب العالم بلغة هادئة لكنها راسخة. ولعل هذا هو ما يجعل مواقف الملك لا تمر مرور العابر، بل تُحسب وتُقرأ وتحترم، حتى ممن يختلف معها.
في زمن كثرت فيه الأصوات وقلّت البصائر، يبقى صوت الملك هو صوت الدولة العاقلة التي تعرف متى ترفع الصوت، ومتى تمدّ اليد، ومتى تضع الحدّ. وما أحوجنا اليوم إلى هذا النمط من القيادة الذي لا يُشبه سوى نفسه، والذي يجعل من الأردن مساحة استقرار في محيط يعجّ بالاحتمالات القاتمة . حمى الله الأردن من كل مكروه.