كلما دوى في آذاننا صوت الناعي ينعى أحد رموز الأردن الكبار في الزمن الصعب ، نشعر بالوحشة أكثر وربما الغربة .
مساء الاثنين نادى الناعي بوفاة واحد من البناة الكبار… زيد الرفاعي..واحد من أهم أعمدة الحكم في الأردن على امتداد أكثر من سبعة عقود ، كان المثال الأعلى والأسمى في الوفاء لوطنه ومليكه ، وكان في مقدمة الفرسان الذين كان الواحد منهم يعتلي صهوة حصانه الأبجر يحمل في يمينه سيف الولاء ، وفي الأخرى راية الفداء لوطنه .
حاز الراحل الكبير على ثقة المغفور له باذن الله تعالى الحسين ، وكان رفيق دربه منذ الشباب المبكر ، رأى فيه الحسين المستشار المؤتمن الذي لا يبدل ولا يغير ولا يخلع صاحبه ، والعضد الذي لا يفل ، وقف خلف الحسين في أزمات كثيرة ومعقدة وصعبة وواجه الكثير من التحديات ، كان في مقدمتها استهداف حياته أكثر من مرة سواء في لندن أو عمان ، وحادثة صويلح لا زالت ماثلة في تاريخه وتاريخ الأردن كيف حمى الحسين بجسده في محاولة اغتيال كانت تستهدف الملك ، وظل أثر الرصاصة التي استهدفته في لندن شاهدة على فدائه حتى لقى وجه ربه .
لم يتردد زيد الرفاعي لحظة واحدة أن يكون ترسا قويا لوطنه ومليكه بوجه كل الضربات التي كانت تحاول النيل من الأردن .
شكل رحيل الرفاعي لنا خسارة فادحة وغصة كبيرة وفاجعة وطنية لا تعوض عبر الزمان .
شكل الراحل حكومته الأولى قبل عقد عمره الرابع ، وهو أصغر رئيس وزراء سنا شكل حكومة في تاريخ الأردن في ظروف صعبة ، حيث كانت البلاد خارجة لتوها من أزمات معقدة ومركبة ، فكان على قدر المهمة وهذا ما جعل الحسين رحمه الله تعالى يكلفه في تشكيل حكومات عديدة في أوقات صعبة .
لما كنا صغارا كنا نرى الفرحة في عيون الكبار عندما يشكل زيد الرفاعي حكومة ، وعندما كبرنا ووعينا فهمنا معنى هذه الفرحة ، حيث كان الأردنيون يتفاءلون بأن يكون الرجل الكبير على رأس الحكومة ، لأنهم كانوا يدركون جيدا أنه رجل القرار الحازم والحاسم يضع مصلحة الأردن والأردنيين فوق كل اعتبار ، ولا يهادن فيها ولا يساوم أبدا على وفائه لدولته وقيادته .
ظلم الراحل الكبير مرات عديدة من قبل المتربصين والحساد ، وواجه محاولات اغتيال الشخصية ، لكنه ظل على مبادئه ومواقفه قابضا على جمر الصبر في التحمل ،وصامتا كصمت الجبال المهيب ، ولم يستطع أحد على امتداد سنين عمر الراحل الكبير أن يسجل عليه أنه نطق كلمة واحدة تسيء لمن كانوا يتربصون به ، وكانت ابتسامته لا تفارق محياه الجميل يستقبل الكل المحبين والمتربصين بصدر واسع لأنه كبير لا يحمل الحقد ، وكما قال العرب ” لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب .. ولا ينال العلا من طبعه الغضب ” وأبا سمير حاز على العلا والرتب.
التقيته مرات عديدة وكان دائما يزداد مهابة لا تخلو من المحبة والود للجميع ، عندما تسلمت رئاسة تحرير الدستور ، زرته في مكتبه بمجلس الأعيان ، وطلبت نصحه ، فقال لي كلمة لا زالت تسكن في ذهني ، يا إبني أهم شيء أن تجعل مصلحة الأردن قبلتك في عملك ، وإذا التزمت بذلك فستنجح ويرتاح ضميرك فنحن الأردنيون يجب أن يبقى الأردن بالنسبة لنا القلب الذي ينبض بحياتنا .
لخص الرجل الكبير هذه النصيحة البرنامج والهدف الذي يجب أن يحمله الأردني مهما كان موقعه وعلى أي ثغر من ثغور الوطن يقف .
الحديث عن زيد الرفاعي يطول وبحاجة إلى كتب ومجلدات ، رحل الرجل وترك وراءه فراغا كبيرا وثلمة لا تسد في جدار الوطن ،وإذ ننعاه اليوم فإننا نوصيه أن يسلم على الحسين وكل الكبار الذين رحلوا ، ولا يسعني هنا إلا أن أردد نواح الجدات ، عندما كن يفقدن حبيب ” جديد يسلم عالعتيق يقله ترى صاحبك من يوم الفراق حزين “
سلام على الحسين ، سلام على زيد ، سلام على كل الكبار الذين رحلوا وحفظ الله أبا الحسين …