(عندما أنظر إلى خريطة الشرق الأوسط أجد مساحة اسرائيل صغيرة بالنسبة لدورها الإقليمي) هذا الكلام للرئيس السابق والمترشح الحالي للولايات المتحدة دونالد ترامب فهل هذا وعد جديد يُطلق هذه المرة من الولايات المتحدة بعدما أُطلق الوعد الأول من الإمبراطورية البريطانية وعلى لسان اللورد آرثر بلفور، وهل دونالد ترامب جاد فيما قاله أم مجرد حديث عابر أمام احدى المنظمات اليهودية بالذات انه قال سأعمل وهذه كلمة تفيد بالتنفيذ.
لقد تحقق مشروع الاحتلال الأول والمنطقة والعالم العربي في حالة من الغفلة والسبات والغياب عن مراكز صنع القرار العالمية، بينما كانت حركة الاحتلال تتمتع بكل أشكال القوة من المعرفة والسلاح والقرب من مراكز صنع القرار العالمية الكبرى ومكّنها جهل خصومها وإنكارهم وعدم تيقنهم من أن اعدائهم يمتلكون الأدوات اللازمة لتحقيق ما يريدون، لكن في النهاية حققت الحركة أكثر بكثير مما تمنته وخططت له، وكان سبب ذلك تمسك خصومهم العرب بالأطر التقليدية والعقائدية في مواجهة هذا المشروع الديناميكي والبراغماتي وعلى أكتاف هذا التصور صعد مشروع الاحتلال وحقق كل ما يريد وما يزال يتقدم إلى الأمام، والآن والسيد ترامب يطرح تتمة لهذا المشروع ويدشن عصر الإمبراطورية الإسرائيلية، فإنه بدون شك لم يستند إلى فورات فكرية او هيامات وجدانية ويؤكد ذلك قوله (أنا مرشح هؤلاء الذين يريدون الدفاع عن الحضارة الغربية والدفاع عن الولايات المتحدة)، وهذا يعيدنا إلى خطاب نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي بأن حرب إسرائيل ليس صراعاً بين الحضارات بل هي صراع بين الحضارة والبربرية وهنا يلتقي مع ترامب بأن الآخر هو بربري وبالتالي لا يحق له وطن أو دولة.
من المؤكد أن كُثيرين من أهل المنطقة سيعتبرون هذا الكلام ليس سوى أضغاث أحلام وإن مثل هذا الحديث قد فاته القطار لأن القانون الدولي أصبح يفرض ارادته على الجميع حسب رأيهم وأن لا ترامب ولا غيره قادرين على القفز فوقه، وهذا يشكل صدمة هائلة وفشلاً ذريعاً في استيعاب دروس التاريخ، إذ لو سُئل اياً كان قبل مائة عام من قيام إسرائيل أن مثل هذه الدولة ستصبح حقيقة لحاججك المستمع آنذاك بأن هذا من سابع المستحيلات ولو جاء نفس ذلك الشخص الآن لحلف آلاف الأيمان أن ما يراه مجرد حلم، لكنه حقيقة صنعها الجهل والعناد والغفلة التاريخية، لقد حقّقت اسرائيل خلال مائة عام كل ما تريد بل واستغلت كل ما استخدمناه من أدوات للتوسع وترسيخ اقدامها، أما بالنسبة للقانون الدولي فكلنا يشهد أنه يُداس بالأقدام في كل لحظة والشواهد لا تُحصى.
والآن ودونالد ترامب يمهد لمستقبله السياسي بوعد الإمبراطورية الإسرائيلية إن فاز فإن خياراته تبتدئ بالجغرافيا وأولها غزة والضفة الغربية (وما قاله ترامب لبنيامين نتنياهو لا يخرج عن هذا السياق وذلك عندما قال أنا معك ولكن افعلها بسرعة ويعني هنا تدمير غزة) والمعنى أن ترامب يتساوق مع النظرية الدينية الجديدة لليهودية والتي تتحدث عن إنشاء إسرائيل الكبرى المؤقتة والتي تشمل الضفة والقطاع والجولان المحتل، أما لاحقاً فإن الأمر يتوقف على حجم الفوضى التي يمكن أن تنتشر في الإقليم وللتذكير فإن اللورد آرثر بلفور كان براغماتياً متسقاً مع الأرثوذكسية المسيحانية ومثل ذلك دونالد ترامب فهو براغماتي متساوق مع المسيحانية الإنجيليّة والتي تعتبر العهد القديم أحد اهم أركانها وهذا يعيدنا إلى الإيمان المشترك بالوعد التوراتي لكلا الرجلين ويذكرنا بنفس الوقت بانتهاء تأثير القومية الاسرائيلية ذات الطابع الليبرالي وصعود الاسرائيلية الدينية الناتجة عن تحالف أتباع الحاخام ابرهام كوك والاسرائيلي القومي جابوتنسكي وكلا التيارين يسعيان الى هدف واحد هو اسرائيل التوراتية .
ربما يعتقد البعض ان ترامب يقصد أراضي فلسطين التاريخية بما تشمله من الضفة والقطاع وفلسطين 1948 وهذا غالباً صحيح لكن دعونا لا ننسى ان بلفور قال بحق اليهود في وطن وليس في دولة ومع ذلك استثمرت الحركة الاسرائيلية هذه الكلمات لإنشاء دولة عندما استصدرت قراراً ينشئ هذه الدولة من مجلس الأمن في العام 1947 (قرار التقسيم)، لكنها تمكنت بعد ذلك من تجاوز هذا القرار وتوسيع رقعة أراضي الدولة ولاحقاً استطاعت احتلال كامل فلسطين في العام 1967 وبعد أن خسرت بعض الأراضي بسبب اتفاقيات السلام تفكر من جديد بالعودة إلى مشروعها الأول بالذات انها تمتلك فائضاً من القوة والدعم وخصومها يستمرون بنفس المستوى من الهشاشة والغياب والضعف، ويؤكد ذلك ما قام به بتسلئيل سيموترتش عندما نشر خريطة متوقعة لإسرائيل تماشت مع نصوص الوعد، وليس من نافل القول إن ما قاله ترامب جزء مُعد من هذا السيناريو، اذاً لا الأردن ولا سيناء المصرية ولا بعض الأراضي السورية بعيدة عن هذا المشروع بالذات في ظل هذا التفتت والانقسام الحالي، وقد يقول البعض إن الأردن ومصر دولتان راسختان وهذا صحيح، لكن لو قرأنا جيداً عناصر التفتيت المُعدة لهاتين الدولتين لوجدنا أن يد إسرائيل حاضرة في كل من هذه المشاريع.
يبقى ان نقول كيف يمكن مواجهة هذا المشروع المُفترض؟ هل بالمواجهة التقليدية المتشنجة وغير المجدية أم بمواجهة عناصر ذكائه وتفكيكها إما بالاحتواء او بذكاء مشابه؟ تبدو الإجابة صعبة ومعقدة لأنها يجب أن تبتدئ بحل كل الإشكاليات المُضعِفة للأطراف العربية المستهدفة ابتداء من الساحة الفلسطينية مروراً بكل الساحات الأخرى بالذات سورية ولا ننسى الأردن ومصر وبالتأكيد العراق، وتبتدئ محاربة هذا المشروع بالإقرار بأنه مشروع ووضع الخطط لمحاربته، أما إنكاره والقفز فوقه فهو أول نقطة انطلاق حقيقية لتنفيذة، وعلّ التاريخ يكون الحافز الأول في خطواتنا وعدا ذلك فإننا في مأزق حقيقي لا يعلم إلا الله منتهاه.